ترامب وأوروبا- أوكرانيا والأمن والحرب التجارية.. تصدعات في الحلف التقليدي

المؤلف: يحيى عالم09.08.2025
ترامب وأوروبا- أوكرانيا والأمن والحرب التجارية.. تصدعات في الحلف التقليدي

يمثل الأسلوب الذي اتبعه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في إدارة العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين عاملاً جوهريًا ومؤثرًا في تأجيج الخلافات وتوسيع الهوة بين أطراف التحالف الأمريكي، الذي ينضوي تحت لواء حلف شمال الأطلسي (الناتو) عسكريًا وأمنيًا.

فبالرغم من حرصه الظاهر على تعزيز قوة أمريكا، إلا أنه يتخذ خطوات من شأنها أن تقوض المكانة الرفيعة التي تحتلها هذه القوة، فقوة أمريكا لا تكمن في انغلاقها على نفسها، بل في بسط نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي على مستوى العالم، وفي المؤسسات الدولية التي أُنشئت لتنظيم إيقاع النظام الدولي تحت الهيمنة الأمريكية ورعاية التوازن مع القوى الأخرى.

لذا، فإن المطامع العلنية في كل من كندا وجزيرة جرينلاند، والخلافات مع الاتحاد الأوروبي بشأن أوكرانيا، أو التوترات مع الاتحاد نفسه في قضايا التجارة والأمن، تزرع حالة من الشك والريبة وانعدام الثقة، مما يجعل تجاوز آثارها على المدى المتوسط أمرًا صعبًا، الأمر الذي سيؤدي حتمًا إما إلى إضعاف الدور الأمريكي، بسبب تفاقم الخلافات بين الحلفاء التقليديين، أو إلى ظهور القوة في صور جديدة من الهيمنة، تتسم بالخشونة وتتجاوز الأعراف السياسية وتخل بالتوازنات التي استمرت لعقود طويلة.

ويتطلب ما سبق تتبع تجلياته في ثلاثة ملفات أساسية: أوكرانيا، والمسألة الأمنية، ثم الحرب التجارية.

1- المسألة الأوكرانية

عندما اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية، كان الخيار الأوروبي يرتكز على الحوار والتفاوض، بغية تجنب تبعات الحرب، نظرًا للتشابك الأوروبي الروسي والمصالح المتداخلة في جغرافيا سياسية مشتركة ومصالح اقتصادية وشبكات إمداد متبادلة، وعلى رأسها الغاز الروسي الذي كان بمثابة الشريان الحيوي للاقتصاد الأوروبي/الألماني، الذي يمثل النواة الصلبة في أوروبا.

وعلى النقيض من هذا النهج التفاوضي الذي أبداه الأوروبيون لتفادي أتون الحرب في القارة الأوروبية، كان خيار الولايات المتحدة وبريطانيا يخضع لاعتبارات أخرى مختلفة تمامًا، ولعل تصريحات بوريس جونسون آنذاك التي هدد فيها الروس بأنهم سيستهدفون لندن، كانت مؤشرًا على حجم الصدام الذي يمكن أن تنزلق إليه القارة الأوروبية، نتيجة التخلي عن أمنها لصالح الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد أدت الحرب إلى أزمة اقتصادية طاحنة في أوروبا، لكن في المقابل، كان من المتوقع أن تكون أوكرانيا مستنقعًا لاستنزاف روسيا وإشغالها، درءًا لتهديدات مستقبلية، ولذلك تحتل ألمانيا المرتبة الأولى من حيث حجم الدعم المقدم لأوكرانيا بعد الولايات المتحدة الأمريكية.

ويرى الأوروبيون بشكل عام أن انتصار روسيا في هذه المعركة سيمثل هزيمة استراتيجية لأوروبا في المستقبل، وخطرًا أمنيًا داهمًا؛ ذلك أن التاريخ الأوروبي والغربي برمته، يعج بنزعات توسعية وحروب كبرى اندلعت إثر تسويات مجحفة أو لا تراعي التوازنات القائمة.

ومن هنا، فإن توجه ترامب للتفاوض مع الروس بمفرده، كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير وزادت من حدة الخلاف، حيث لم يتقبل الأوروبيون أن يتم إقصاؤهم من طاولة المفاوضات التي ترسم معالم مستقبل الأمن في أوروبا، وهو ما تجلى بوضوح في الإعلان عن الدعم العلني لأوكرانيا عقب حادثة البيت الأبيض بين ترامب والرئيس الأوكراني زيلينسكي، وربط المسألة الأوكرانية بالأمن الأوروبي.

لقد أدى نهج ترامب في إدارة أزمة الحرب الروسية الأوكرانية إلى تغيير جذري في التوازنات القائمة، وهذا سينعكس حتمًا على إعادة صياغة استراتيجيات أوروبا عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا.

ويكفي أن نتذكر الوضع الذي كان سائدًا، والتوجه الأمريكي الحاد السابق ومعه البريطاني والفرنسي في دعم كييف بأسلحة كانت تعتبرها روسيا محظورة وقد تؤدي إلى حرب عالمية، في حين أن ألمانيا لم تتبنى نفس النهج، ورفضت تقديم بعض الأسلحة التي يمكن أن تحدث تغييرًا جوهريًا في مسار الحرب، مما يعني أن كتلة مؤثرة في الاتحاد الأوروبي كانت تسعى إلى الإبقاء على الحرب في نطاق محدود، يمنع امتدادها في الجغرافيا الأوروبية، ويحافظ على مساحة للتفاوض لإيجاد حل للأزمة، على أن يكون تفاوضًا يراعي المخاوف والهواجس الأوروبية، ويستجيب في الوقت نفسه للمطالب الأوكرانية، وهو ما تجسد عمليًا في تواصل المستشار الألماني المباشر مع بوتين في أواخر شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

وبالنظر إلى مسارات الحرب والتسويات المطروحة، فإن التاريخ الذي لم يتحقق، هو أن التفاوض الذي كان من الممكن أن يجري قبل اندلاع الحرب، كان سيحفظ لأوكرانيا كامل أراضيها، ويجنب العالم وأوروبا على وجه الخصوص أزمة اقتصادية وتوجهًا مكثفًا نحو التسلح قد ينتهي بشكل طبيعي إلى صدام أوروبي روسي على المدى المتوسط، بل إن التسوية الحالية التي أحدثت انقسامًا بين أوروبا وأمريكا، لن تحل الأزمة بشكل جذري، بل ستعمل على تأجيلها إلى المستقبل.

سيكون مستقبل أوروبا رهنًا بما يجري الآن من مفاوضات تحدد مصير حدود أوروبا؛ بمعنى أن وضع أوكرانيا، وموقع القارة الأوروبية من التأثير في الجغرافيا السياسية للعالم، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقدرتها على تحقيق الاستقلال الأمني عن الولايات المتحدة، أو على الأقل تحقيق الردع لحماية مصالحها بنفسها.

ومن ثم، فإن أوروبا الآن، في تعارض مباشر مع الولايات المتحدة، ليس فقط في المسألة الأوكرانية، وإنما أيضًا في أمن أوروبا، حيث أصبح استقلال أوروبا الأمني والعسكري الخيار المستقبلي الذي يفرض نفسه بقوة.

2- المسألة الأمنية

ليس جديدًا على قادة الاتحاد الأوروبي التفكير في الاستقلال عن الولايات المتحدة الأمريكية في المجال الأمني والعسكري، فقد طُرحت هذه الفكرة بقوة في فترة حكم ترامب السابقة، حين طالب القادة الأوروبيين بزيادة الإنفاق مقابل الحماية التي يحصلون عليها من حلف الناتو.

لم يعتد الأوروبيون على خطاب مباشر يحمل الكثير من الإهانة بشأن الأداء أو الإنفاق مقابل الحماية، وهو ما اعتبر جرحًا للنرجسية الأوروبية، تجسد حينذاك في حديث الرئيس الفرنسي عن ضرورة التفكير والعمل على إنشاء قوة عسكرية أوروبية.

خفت حدة التفكير في هذا الموضوع مع مجيء بايدن، وتعديل ميزان العلاقات الأمريكية الأوروبية، والانخراط الكلي والمشترك في الحرب الروسية الأوكرانية، لكن ما طرحه ترامب بشأن زيادة الإنفاق الإجمالي من الناتج المحلي الإجمالي من 2٪ والتي تم إقرارها سنة 2014 إلى 5٪، والمسار الذي سلكته إدارة ترامب بشأن التسوية بين أوكرانيا وروسيا، قد يفرض تغيير الحدود ويبقي على روسيا في وضع المنتصر، مما يحمل تحديات وتهديدات لمستقبل الاتحاد الأوروبي.

وقد ظهرت أولى بوادر ذلك في قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل يوم 20 مارس/آذار 2025، والتي أشارت إلى رفع ميزانية الإنفاق الدفاعي إلى 800 مليار يورو خلال السنوات الأربع القادمة، منها 150 مليار يورو في صورة قروض لمشاريع التسلح مع عدد من الإعفاءات الضريبية والتسهيلات الخاصة، بالإضافة إلى وضع الخطوات اللازمة ليكون الدفاع جاهزًا بحلول سنة 2030.

هذا تحول عميق، سيرسم معالم جديدة لأوروبا المستقبل من الناحيتين العسكرية والجيوسياسية في ظل اضطراب العلاقة مع روسيا، كما أنه يبرز تهيئة البدائل الممكنة للناتو أو الموازية له، نتيجة لعدم ثقة الأوروبيين.

وبالعودة إلى الوراء، فإن ما بدأ يظهر الآن كاستراتيجيات أمنية خاصة بالاتحاد الأوروبي، كان محل نقاش في مناسبات عدة، نستحضر منها مناسبتين اثنتين:

  • إحداهما خلال اجتماع القادة الأوروبيين في بودابست يوم 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، إذ صرح الرئيس الفرنسي بأنه ينبغي للأوروبيين ألا يفوضوا أمنهم للأمريكيين.
  • كما قدم جوزيف بوريل خلال جلسة للبرلمان الأوروبي يوم 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، قراءة للمرحلة المقبلة، والتي تستبطن حسب وجهة نظره تغيرات جيوسياسية مهمة، تحتاج أوروبا فيها للجاهزية من أجل التعامل مع تقلباتها، ومن ذلك ضرورة تعزيز أوروبا سياستها الدفاعية، التي بدأت تتبلور بفعل الشكوك التي تنمو باطراد بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية.

ويمكن القول إن المسألة الأمنية خرجت من دائرة التفكير والانشغال السياسي الخطابي، إلى حيز التنفيذ، مدفوعة بالمناخ السياسي والعسكري المضطرب على الحدود الروسية الأوكرانية، ثم بالنهج الذي اختاره ترامب مع الحلفاء التقليديين.

وفي الواقع، فإن وجود تكتل إقليمي متكامل اقتصاديًا وسياسيًا -إلى حد ما-، ويفتقر إلى استراتيجية أمنية وعسكرية خاصة به، هو وضع مستجد في التاريخ الحضاري الأوروبي برمته، بكل ما يحمله هذا التاريخ من مآسٍ استعمارية وحروب داخلية وخارجية، فهو بشكله الحالي لا يمثل قوة مؤثرة تحمي مصالحه الاقتصادية، أو فعالة في حل النزاعات، ذلك أن دوره مرهون بموقف الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد تبين بالفعل أن أي اضطراب على حدوده أو تغير في استراتيجيات الإدارة الأمريكية، قد يكون له تأثير مباشر عليه في السلم والحرب على حد سواء، وهذا ما يهدد وجوده، خاصة مع رئيس مثل ترامب الذي خلق تناقضات تمس السياسة والأمن والتجارة مع الحلفاء وغير الحلفاء.

3- الحرب التجارية

مباشرة بعد انتخاب ترامب، أنشأ الاتحاد الأوروبي فريقًا خاصًا في قلب الأمانة العامة بقيادة رئيسة المفوضية "أورسولا فون دير لاين"، أطلق عليه فريق عمل ترامب، للتنسيق بين دول الاتحاد والمفوضية الأوروبية، بهدف إيجاد طريقة للتعامل مع الحرب التجارية التي أعلنها ترامب، وتجنب رفع الرسوم الجمركية على السيارات والمنتجات المستوردة من أوروبا إلى الولايات المتحدة، التي تعتبر السوق التجارية الأولى للاقتصاد الأوروبي.

ولم يكف ترامب عن الإشارة إلى أن هناك عجزًا في الميزان التجاري للولايات المتحدة مع أوروبا يصل إلى 230 مليار دولار، متوعدًا برفع الرسوم الجمركية لتتراوح بين 10 و20 ٪ على جميع السلع والواردات التي تصل قيمتها إلى 3 تريليونات دولار من الدول الصديقة وغير الصديقة، منها 575 مليار دولار من السيارات والمنتجات الصيدلانية وغيرها، قادمة من الاتحاد الأوروبي.

لكن حجم الرسوم التي فرضها ترامب تجاوز ما صرح به، ليصل إلى 25% على واردات الصلب والألمنيوم من كل من الصين واليابان وكندا وأستراليا، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي، وباستثناء الصين، فإن باقي الدول تعتبر من الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة.

وفي المقابل لرفع ترامب رسوم "التعريفة" الجمركية التي كان معجبًا بها جدًا، أقر الاتحاد الأوروبي رسومًا مماثلة أو "بشكل متناسب" على حد تعبير الأوروبيين على عدد من المنتجات، وكان من المفترض أن يتم تطبيقها ابتداء من بداية شهر أبريل/نيسان 2025، لكنها أُجلت إلى منتصف الشهر، لإتاحة المجال أمام التفاوض السياسي لتجنب الآثار السلبية.

وتخفي الرسوم الجمركية وجهًا آخر للتوتر والخلاف بين الحليفين التقليديين، إذ ستكون تكلفتها باهظة على الاقتصاد الأوروبي المرتبط بالسوق الأمريكية بشكل كبير، كما أنها ترسخ حالة عدم اليقين أو الشك بين أوروبا والولايات المتحدة، التي تتجاوز علاقتهما البعد التجاري والاقتصادي إلى السياسي والأمني في القضايا الدولية. غير أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أعلن لاحقًا تجميد العمل بهذه الرسوم، في خطوة مفاجئة عزاها مراقبون إلى ضغوط داخلية واعتبارات انتخابية.

ختامًا: إن التغيرات التي يمكن أن تنجم عن وجود قوة عسكرية أوروبية، سواء كانت مكملة للناتو أو مستقلة عنه ولو نسبيًا، ستكون تعبيرًا عن تحولات جيوسياسية عميقة في القارة الأوروبية، وفي العلاقة بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وهي بمثابة إعلان عن نهاية التوازنات التي أسفرت عنها الحرب العالمية الثانية، وشلل في النظام الدولي الذي يعكس المرحلة الماضية، الأمر الذي قد يزيد من حدة التناقض بين القوى المتصارعة في مناطق النزاع.

فانعدام الثقة، والريبة المتزايدة لدى العديد من ساسة الاتحاد الأوروبي تجاه توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة، والشكوك حول ما تقدمه الولايات المتحدة من حماية وضبط لإيقاع الصراع الدولي، والتوتر الذي يخيم على التسوية الجارية في أوكرانيا وتداعياتها المستقبلية، والجدل حول الإنفاق الدفاعي أو حلف الناتو، والرسوم الجمركية، وإبرام تسويات سياسية وأمنية بمنطق الربح الذي يحكم الصفقات التجارية، كل ذلك سيمهد الطريق لظهور أو تشكيل مستقبل مختلف لأوروبا والعالم، ستبرز معه مناطق نفوذ جديدة وأدوات مختلفة في إدارة الصراع.

إن نزعة ترامب الانعزالية تدفع الأوروبيين إلى البحث عن استراتيجيات بديلة، ليس فقط للاقتصاد، بل أيضًا لإيجاد حل لمعضلة الأمن، التي تعتبر محورًا أساسيًا في التفكير الأوروبي منذ عقود من التحالف الاستراتيجي، لذا فإننا أمام مستقبل ينذر بصدوع وتشققات، أو على الأقل بعدم يقين في العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية في عدد من المجالات الحيوية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة